الثلاثاء، 31 يوليو 2012

الجنةُ ليست تحت أقدام الأمهات دائماً




     يقولون؛ من يرى والدته كل صباحٍ ومساء لا يحق له التحدث عن الحزن، والجميع يوافق على هذه المقولة، ويبدأ بوصف حبه لوالدته التي لا مثيل لها، وأخيراً؛ يطفو على السطح وصفٌ جميلٌ للغاية "الأم هي شمعةٌ تنير القلب، رؤيتها تبهج الروح، ووجودها يشعرنا بالأمان، وحنانها سر صبرنا على الشدائد". لكن هل جميع الأمهات متساويات؟ وهل الجميع قادر على الإفصاح عن حقيقة مشاعره؟!

     محزنٌ أن تعجز عاطفتك عن إيجاد مشاعر حب وامتنان لوالدتك، والمحزن أكثر أن تمثل لها الحب والامتنان، فقط لأن المجتمع والدين يوصيان بذلك!

     ماذا لو ارتفع صوت أحدهم ليقول "الأم لهيبٌ يحرق القلب، رؤيتها تُكئب الروح، ووجودها يشعرنا بالكرب، أمّا حنانها؛ فلم نلمسه يوماً، بل ذُهلنا ونحن نسمع عنه، وتُهنا بالبحث عن حقيقته..!". هل أحدنا يجرؤ على قول ذلك؟ وكيف ستكون نظرة المجتمع له؟!

     لو افترضنا أنّ أحدهم تجرّأ على البوح عما يعتريه من مشاعر سلبية تجاه والدته، لسمعنا بالتأكيد الأصوات تعلو حوله، تُنكر ذلك، وتتعجب من تصريحه! وكأنّ الأم ملاكٌ لا يجوز مسّه!

     لا يا سادتي، فالجنةُ ليست تحت أقدام الأمهات دائماً، والأمهات لسنَ بالضرورة ملائكة الله على الأرض، إنّ بعضهن يتحولن إلى وحوشٍ مفترسة أحياناً، والويلُ لمن يكون الفريسة!

     إنّ الأبناء منحة إلهية، وهبة ربّانية، يتوجّب على من يحصل عليها أن يرعاها أشد رعاية، وأن يحسن نشأتها، والتنشئة لا تكون بإغداق المال على العلم والترفيه والمبيت والطعام، بل بحسن التعامل، وبطيبة المعشر، وبصدق الأقوال والأفعال.

     كيف لأم أهملت أبناءها في طفولتهم، ولم تكن لهم القدوة الحسنة، ولا الزوجة الصالحة، ولا المربية الجيدة، أن تطالب بأبناءٍ بارّين لها؟! كيف لأمٍ عنفُها مطبوعٌ على أجساد أبنائها، وصراخها محفوظٌ بذاكرتهم، أن تنادي بالحب والإحسان؟! كيف لأم لا تكتم سرّ أبنائها أن تفرض الاحترام؟!

     يا أمهات العالم؛ أحسنوا التعامل مع أبنائكن واعدلوا بينهم، ثم طالبوا ببرّهم وطاعتهم، ولا تعقّوهم قبل أن يعقّوكن.

سائقو التكسي يتقنون رسم الابتسامة على محياي 1



     بعد يومٍ طويل، استُثيرت عاطفتي خلاله، وأُثيرت آلامي؛ ركبتُ عربة تكسي كي أهرب من جحيم إلى جحيم آخر.

     فكل ما حولي يستدعي البكاء؛ في العمل، مديري ذو الأوجه المتعددة، وفي المنزل، والدتي العاقة لأبنائها، وفي التلفاز، مئات الأخبار عن الموت!
       
     ابتسم لي بلطف سائق التكسي، وسألني عن وجهتي، دللته عليها بلطفٍ كذلك.

     كانت عيناي سارحتان في المدى، موشكتان على الإدماع، وإذا بالسائق ينظر إليّ من مرآته ويخبرني عن عنائه في السواقة خلال الصيام، وتحت لهيب الشمس الحارق، شعرت بعنائه وصبره، وتذكرت أن لكل إنسانٍ على وجه الأرض معاناةً مختلفة، لا يشعر بحجمها سواه، ثم أخبرته أنه سيلاقي الأجر عند رب العالمين.

     سألني عن طبيعة عملي فأجبته، تمنى لي التوفيق ثم اعترف لي أن وجهي، وصوتي، والطيبة المتمثلة بابتسامتي وبعينيّ، صفاتٌ تؤهلني لأكون أميرة مدللة بعيدة عن أوجه الشقاء.

     كان يقول ذلك بحياء ودون خبث، فابتسمت له وشكرته دون قصد، أقصد بـ "دون قصد" أن فتاةً غيري كانت ستتخذ من الصمت مبدأً، أو أنها كانت ستوقفه وستخرج لتكمل طريقها مع آخرٍ أكثر احتراماً، فكيف يتجرأ ليتحدث معها بهذا الشكل؟! لكني لم أستطع أن أقابل لطفه بعنف! خاصة أن عينيه أخبرتاني بحسن نيته، وبحاجته للحديث إلى إنسان ينصت له باهتمام.

     وصلت أخيراً إلى جحيمي، هممتُ لدفع الأجرة له، لكنه رفض! أخذها بعد إلحاحي، شكرته وترجّلت من العربة.


     وأخيراً؛ توجّهت إلى جحيمي ودمعتي قد تبخرت، ومعنوياتي قد  ارتفعت، وابتسامتي قد ظهرت.

    رائعون هؤلاء الذين يرسمون الابتسامة على محيا إنسان، ولو بكلمة.

الثلاثاء، 17 يوليو 2012

خيالُها أكثر صدقاً



     الدهشة كانت أول انطباعٍ يتسلّلُ إليها بعد لقائها الأول معه، وللدهشة في قاموسها تعريفٌ خطير. فالدهشة تعني أول نوبات الجنون، والجنون يعني واحداً من اثنين؛ الشعور بالحب، أو بالإنسانية.

     أمّا جنون الإنسانية؛ فقد تلبّسها منذ سنين طويلة، خاصّة حين بدأت تحشُدُ من حولها كي ينضموا إلى حملتها المنادية بجملةٍ من العبارات الغريبة العجيبة!

     اليوم؛ يكتملُ جنونها، فنوباتُ الحب تداعبها.

     جمعها القدر برجلٍ بسيطٍ في هندامه، رفيعٍ في مستوى فِكْره، متمرّدٍ في سلوكه وعاداته، بشرتُه سمراء مليئة بالجاذبية، وابتسامته بريئة تُزيّنها غمّازة خفيفة، عينيه تنبضان ذكاءً، وصوته يتأرجح ما بين الطفولي المرح والرجولي الرخيم. 

     أسقطتها الوهلة الأولى في الدهشة، فشُغل فكرُها به، وأصبحت مهووسة بتتبعه!

     رسمت لهُ صورةً خيالية، وصدّقت رسمها، بل أيقنت أنه كذلك، فهو في مخيّلتها الشاب اللطيف، ذو الابتسامة النقيّة، والأخلاق الحسنة، يُحسن التعامل أمام النساء، وعلى بساطة هندامه إلا أنه يعتني بمظهره، ملتزمٌ بوقته، محبٌ لعمله، يمتلك قدراً عالياً من الحساسية، وجزءاً لا بأس به من احترام الآخر، يسعى إلى حبٍ صادقٍ ووحيد بعكس باقي الرجال.

     بعد عدّة لقاءاتٍ جمعتها وإيّاه، بحكم عملٍ مشتركٍ بينهما، اكتشفت أنّه ممثلٌ بارع، قادر على تلوين نفسه والتأقلم مع جميع الأحوال، والتعامل مع كافّة أطياف البشر.

     بالإضافة إلى ذلك؛ كان غروره ظاهراً بعكس التصور الأول عنه، كما أنّ تعامله مع النساء لم يكن محدوداً كما ظنّت! بدأت تكتشف صورته الحقيقية، وتحزن لحقيقتها القاسية.

     بدأت بالابتعاد، لكن معلومةً صغيرةً عرفتها عنه، قرّبتها إليه أكثر، وجعلتها تشفع له، بل وتبحث عن مبرراتٍ لأفعاله المستهجنة! فهو ليس إلا شابٍ ظلمتْهُ الحياة بقسوةٍ نادرة، فصنعت منه رجلاً متعدد الشخصيات، متأقلماً مع مختلف أنماط الحياة، شابٍ مدركٍ للحقيقة، وحزينٍ في باطنه لبعده عنها، فهو غير قادرٍ لوحده على التغيّر، إنّه ينتظر من ينتشله من ظلماته، لكن بوعيٍ وتفهّمٍ لماضيه وبتدرّجٍ يناسب شخصيته المشتعلة وتفكيره غير المتوقّف عن النقد.